السبت، 18 أكتوبر 2008

وصلتم إلى أرض الصراع!


بائع عصير الرّمّان يتّكئ على عربته، يشعل سيجارته بصمت الباحثين عن الأمل، محدّقاً في فراغ الشارع. من ورائه مجموعة من الشبّان العاطلين من العمل، يسترقّون النظر إلى الشرطة المتجوّلة. نقاش بين شبّان وصحافي إسرائيلي يحتدم إلى حدّ الصراخ ليزيد من توتّر الرّقعة المشحونة. حركة سير خفيفة، وعنفوان تكتمه الجدران. من اعتاد المجيء إلى عكّا القديمة، يدرك بأنَّ شارعها اليوم منهك تنقصه الأصوات والألوان في مدينة باتت بين عاصفتين

ما أشبه اليوم بالأمس. الأنباء والمشاهد المنقولة من "ميدان المعارك"، تأخذ المتأمّل إلى المكان الفلسطيني المألوف أبداً قبل كل "انفجار"؛ فالمواجهة لا تندلع بفعل "حدث صغير" يتطوّر، بل هي محصلة أحداث كبيرة، يشعلها حدث صغير. ومشهد عكا اليوم، يعيد عجلات "الزمن الأصفر"، إلى "أكتوبر 2000"، حين هبَّ الفلسطينيون مع انطلاق الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة. كان عنوان الهبّة تضامنياً مع الإخوة القابعين على الجانب الآخر للحاجز، لكنَّ أصل الحكاية والانفجار يمتد إلى سنوات من التهميش والتجاهل والعداء والتضييق، وشعور مكتوم بالظلم، انفجر خلال مشهد الطفل محمد الدّرّة، وهو يموت بين يدي والده.

هذه المرة، يقول أحمد، الذي يسكن خارج الأسوار، ويأتي يومياً إلى البلدة القديمة، إن "أكتوبر يعود إلى عكا. أهل هذه المدينة يعانون التضييق والهميش إلى حدّ انفجارهم. الاعتداء كان القشّة التي قصمت ظهر البعير، والسنوات تحكي."

من يخاطب أهل عكا العرب، يدرك بأنَّ خروج المئات منهم نحو المواجهات في اليوم الأول ليلة الغفران، جاء "بعدما انفجرنا"، كما يقول أحد الشبان: "نحن نعيش في طنجرة ضغط. وهم يضغطوننا أكثر وأكثر. من رئيس البلدية حتى الحكومة. نقول كفى، فعلاً كفى. هذه لم تعد حياة طبيعية."

الطريق إلى الكنيس
الهدوء المشوب بالحذر يسود المكان، لكنَّ أهل المكان يبوحون بمرارة العيش، لتسقط معادلة "المدينة مختلطة": "هناك شعبان منفصلان يعيشان في مدينة واحدة. وكفى للحديث الكاذب عن التعايش"، يقول أحد سكان المدينة. ويكمل آخر: "لقد اعتدوا على العرب، في وقت نحن نحترم فيه الآخرين. كانوا يأتون إلى البلدة القديمة ويستفزّوننا ونحن صامتون. فهم يملكون كنيساً في قلب السوق. ولم نعتدِ ذات يوم على مقدّساتهم. لكنّهم يطالبوننا دائماً بطلبات عنصرية ولا يحتملون حتى صوت الأذان."

الطريق المؤدية إلى الكنيس المذكور صعبة والتفافية، إلى حدّ الوصول إلى ممر ضيق. لا يشبه الغيتو، بل هو الغيتو بعينه. خمس عائلات تسكن في أقل من عشرة أمتار. نساء «الحيّ» يجلسن في الممر الضيق: قهوة وأطفال يلعبون في ضيق المكان. ومن بقي من أفراد العائلة يطلّ من النوافذ العالية. مشهد غريب للغريب، لكنّه مألوف في الحي القديم. في آخر الممر (أو النفق) يقف جنديّان مدجّجان بالسلاح، إلى جانبهما امرأة تقطم أوراق الملوخية، يحرسان باباً صغيراً يقع في عمق الممر، هو باب الكنيس.

تقول امرأة بصوتٍ عالٍ: "يأتون إلى قلب بيوتنا، إلى هذا الكنيس، ولم يسمعوا كلمة سيّئة ذات يوم. يأتون في الأعياد وأيام السبت ونحن نحترمهم. لكنهم، في شهر رمضان، طالبوا بإلغاء الأذان في حي فولسون" (حي خارج الأسوار يسكنه العرب.)
مدخل الكنيس ملاصق لمداخل البيوت. نسأل ولا أحد يجيب عن تاريخ الكنيس، حتى أتت سيدة كبيرة في السّنّ «هذا بيت سكنته عائلة عكّاوية قبل سنوات. هجروه إلى قرية المكر. كان البيت مرتعاً للفئران، وجاء اليهود بعد العائلة ورمّموه وجعلوه كنيساً وقالوا إنه تاريخي."

لا يمكن الدخول إلى الكنيس، الجنديان لا يتحركان. حين تطلب الدخول يرفضان بحزم من دون نقاش، إلى أن أتى الضابط "البراغماتي": «لماذا ترفضان إدخاله، تفضّل، لا نخفي شيئاً هنا". في قلب الكنيس، أكثر من عشرة مجنّدين مدجّجين بالسلاح. على ما يبدو لـ«حماية الكنيس من العرب» على الرغم من أنه لم يتعرّض ذات يوم لأي هجوم يذكر.
أهل الممر هم حالة مألوفة عن أهل البلدة القديمة، يصرخون بكل المآسي. يصنعون من الصراخ فرصة للبوح بالمكتوم على مدى عقود. امرأة تصرخ بكل ما أوتيت من صوت لتحكي عن حالها: «يسألوننا ماذا ينقصنا؟ عليهم أن يسألوننا ماذا لا ينقصنا. زوجي يعمل في جمع القمامة. نعيش ستة أنفار من راتب شهري لا يكفي لولد واحد. ممنوعون من توسيع بيتنا. ممنوعون من ترميمه أو فعل أي شيء. ممنوعون من كل شيء"

وتدخل امرأة أخرى إلى النقاش: "لقد مات والدي قبل أن يكتب وصيّة بها يورثني البيت. عندما مات، قالوا لي في العميدار إنهم سيأخذون البيت مني وأتوا بقرار من المحكمة من دون أن أعلم بوجود المحكمة أصلاً. وأنا اليوم في بيتي، مستأجرة غير محميّة، يستطيعون أن يرموني في الشارع متى يشاؤون."

يحكي أهالي البلدة عن مخططات لـ"تهويد المكان". عن صفقات لشراء بيوت في المدينة وإسكان يهود هناك. تماماً كما في القدس واللد والرملة ويافا: "يأتون بواسطة السماسرة، ويقترحون مبالغ طائلة لإغراء الفقراء ليبيعوا البيت ويخرجوا من المكان."

الحال منتشرة في عكا، وباتت في الأعوام الأخيرة هي القضية، إلا أن محاربتها صعبة للغاية: "هناك عشرات البيوت والمحالّ التجارية المغلقة اليوم، لا نعرف مصيرها ولا من اشتراها. وقد سكنت في الآونة الأخيرة أكثر من عائلة في البلدة القديمة. إنهم متّجهون لتهويدها."
الممر الذي لا يزيد على عشرة أمتار كان مثقلاً بالهموم. الناس يريدون التعبير عن حالهم، أن يحكوا: "فليسمع كل العالم ما نعانيه."

هكذا يغادر الزائر مثقلاً بالهموم. كم كان أهل هذه الرقعة المنسية بحاجة لتفريغ طاقات متراكمة بفعل السنين والفقر. كم كانوا بحاجة إلى الابتعاد، ولو للحظة عن هامش الصفحة. فمن الصعب وصف حالة تفيض منها المشاعر بهذه الطريقة. امرأة تحكي وتحكي إلى حد انفجارها بالبكاء، لتمضي خجلاً إلى إحدى الزوايا المظلمة، ربما لتبكي أكثر. وليبقى مشهدها بعيداً عن الأضواء، تماماً كمدينتها.

صمت الحناجر
الخروج من المكان يعني البقاء في السوق الخالي من الغرباء. ليموت المشهد موتاً مؤقتاً قد يطول. الممرات خالية وهادئة. والتجار ساكتون هذه المرة، لقد تنازلوا عن صيحاتهم الملحنة، فلا فائدة من صوت يضرب الجدران الخالية. كم تغيّر السوق في هذين اليومين. حتى "غوّار"، صاحب المسمكة الأكبر في السوق وصاحب الضحكات العالية، يبدو حزيناً هذه المرة. يتناول مكبّر الصوت، ويعلن التنزيل تلو التنزيل، لكنْ لا أحد يسمع.

لا شيء يحيا في هذه الأوقات سوى المقاهي التي تؤوي المتقاعدين والشبان العاطلين من العمل. أمير يقول: "الشبان هنا لا يعرفون ماذا يفعلون. لا فعاليات ولا نوادي ولا مراكز جماهيرية ولا أماكن عمل. ماذا يتوقعون منّا."

الشبان يمتدون على طول الطريق. بين كل أربعة هناك نرجيلة تغازل فراغ المكان وتزيده غربة عن الواقع المنشود. كلهم على هذه الرقعة يعانون من كل شيء. ويقول أحد الصيادين: "ماذا تريد مني، أخرج عند الساعة الرابعة صباحاً إلى البحر، وأعود فارغ اليدين في الساعة العاشرة صباحاً. حتى البحر لم يعد من سمات هذه المدينة."

الأحداث لم تكن في البلدة القديمة، لكنَّ الجميع يعرف أن الناس العالقين بين الأسوار هم أصل الصراع. يحيون في هدوء قابل للانفجار في أي لحظة، وخصوصاً في ظل واقع تنعدم فيه الحلول. لقد حلّت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني ضيفة على المدينة. وقالت من دون تحفّظ إن على "الجميع احترام الغفران". وأضافت "يجب تحسين العلاقات بين اليهود العرب". ولكن من يزور المدينة ويقترب من حقيقتها يدرك بأنَّ الحل بعيد، ما دام الناس يعيشون تحت هذا المكان الثقيل.

من يغادر المكان، يعي جيداً أن الأحداث لم تكن وليدة اللحظة بقدر ما كانت وليدة المرحلة، ولن تعود الأمور إلى حالها مهما حاول المسؤولون تجميل الواقع. أحداث عكا، ستظل ثقباً في التاريخ والمكان، ولن تفلح مهرجانات "التعايش" في تغيير هذه الصورة القاتمة. من يزُرِ المكان، من يشتمّ هواء الصراع هناك، يدرك بأن الحل بعيد، ولن يأتي ما دام هؤلاء الناس يعيشون على هامش الصفحة.

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2008

على أنغام الصمت


عليك أن تحزم أمتعتك قبل "الصمت"، وتمضي إلى "الميني ماركت" القريب، أن تشتري ثلاث علبٍ من السجائر، وسداسية من الماء وبعضًا من المكسرات الثقيلة. بعد قليل، سيعم "صمت الغفران" على أروقة المدينة المختلطة. ستشعر بأنَّ عجلات الزمن تتوقف في محطة ما. سيتسلل الخوف قبلك إلى المركبة، خشية من هواة الحجارة "الغفورين". كن يقظًا متيقظًا، وإنَّ الله غفور رحيم.

أجننت؟ فنجان قهوة في أحد المقاهي؟ لا مكان في المكان، كل شيء مغلق، وحتى "بن غوريون العرب" صامت بفعل الغفران. اهدأ قليلاً، وحتى لو لم تكن من هواة السينما، حاول أن تستأجر فيلمًا أو أن تقرأ قصة في "الموضة" (أحلام مستغانمي أو باولو كويلو!). وما رأيك بدعوتها لعشاء سري؟ حتى لو نسيت أن تشتري لها النبيذ المفضل، ستغفر لك خطاياك في "الغفران". أدعوها إلى رقصة رومانسية على أنغام الصمت، كن حزينًا، فمظاهر الفرح مرفوضة.

في اليوم التالي، نم زيادة عن معدلك الأسبوعي. تخيل للحظة عالمًا من دون سيارات وضجيج. استفد من فراغ اللحظة واستمتع بصباح دون صحيفة وقهوة، واستفد من الكسل المتسلل إلى الدماغ و"فكر بغيرك".

وماذا لو وجدت نفسك محتلا ومخنوقًا وحزينا وبائسًا بين أربعة جدران دون أن تمتلك دراجة هوائية؟ لا بأس، هذا ثمن الديمقراطية يا عزيزي، لقد كتب الله علينا العيش في دولة "علمانية."

"هاي مش بلد"

نكنس الغبار إلى تحت السجادة، نضع المكنسة جانبًا، ونقول: "نحن بخير".
وهل نحن بخير؟ من يبتغي لمس الواقع، فالتوقيت صائب اليوم، يتجلى ببؤسه واضحًا قبيل الانتخابات المحلية في قرانا العربية المستعدة لانتخاب "حماة الديار" و "قادة المستقبل".

نحن الذين عاصرنا بداية القرن الواحد والعشرين، نجد أنفسنا اليوم، في ظل انشغال العالم بأزمة "وول ستريت"، عائدين إلى الجاهلية. نعجز عن تفسير مشهدٍ إحتفالي (محزن بمضمونه) تجتمع فيه عائلة عربية كبيرة (حجمًا)، في إحدى القرى العربية، ويجري أفرادها انتخاباتٍ تمهيدية لـ "مرشح العائلة"، لرئاسة المجلس أو البلدية. الفائز في هذه الحالة، سينافس مرشحين من عائلات أخرى. وهكذا، يمضي مجتمعنا واثقًا ومستعدًا، نحو تعزيز العائلية ومأسستها. فكيف يقبل "أكاديمي"، درس في جامعات العالم، أن يكون مرشح العائلة؟! إسألوه، سيقول لكم "مصلحة البلد". وويل لبلد صارت مصالحه بأيدي عائلات "سيادية" لمجرد كثرة أولادها.

عائلية وطائفية: العائلة الكبيرة في أغلب الأماكن تحكم، والطائفة الكبيرة في أغلب الأماكن تحكم، والأشخاص آخر من يقرر. نحن متعبون ومتشرذمون إلى حد الجهل، لم نقو منذ عقودٍ على نبذ هذه المظاهر التي تتخذ، مع تطور العالم -للمفارقة- شكلا أشد جهلاً...

العاهة تكتمل حين نتكل على الأحزاب لتكون مرصادًا للمظاهر المستشرية، لكن الأحزاب، في معظم المناطق شريكة، وتشترط، بوسيلة غير معلنة، بأن يكون مرشحها ابنًا لـ "عائلة كبيرة"، "ومن ورائه أصوات"، لتضمن التنافس القوي. ماذا مع المبدأ؟ وماذا مع أناس قدّموا أرواحهم على طبق للحزب؟ عليهم الإنتظار عشر دورات قادمة، وأن يكثروا من الأولاد ليكونوا سندًا مستقبليًا. وسخرية الأقدار تكتمل، فبعد الانتخابات، سيجلس "أعمدة المستقبل" المنتخبون على مقاعد اللجنة القطرية والمتابعة وسيبحثون في مصائرنا.

وقفة

نحاول أن نحيي ركود التاريخ المعشش في حاضرنا، وقبل حلمنا "بالزنابق البيضاء"، نحلم بأن نرفع شريطنا الأسود إلى تلك الغيمة قبل أن تغادرنا. ننظر حولنا ولا نجد إلا بضع مئات (أو أقل) يحيون ذكرى ضربت الميلون قبل ثمانية أعوام في "هبة اكتوبر". مسيرات واحتجاجات ولجان رسمية، تحقيق واستخلاصات. جرحى وشهداء يموتون دون أن يحاسب أحد. ولم تقوَ مشاهد الموت على أيقاظنا من سباتنا لنسجل موقفًا، ضمن مسيرة سلمية، نرفع فيها صورة وأغنية.

الجمعة، 3 أكتوبر 2008

إنَّها المتمردة على نهاياتي!

حين تستفيق من نومها، تزحف بهدوء الحالمين نحو غيمة شتوية ترمي بها إلى أوراقي، لتعبث في مكتبتي الفوضوية. حين تجدني جالسًا على ذلك الكرسي الأسود، تجرّني نحو طفولتها المؤقتة، لإضرام الليل بما تبقى من شمسٍ. تفك أسري من عناوين الصراع نحو الحلم بالبرد المعهود.

حين أغضب من تمردها على صباحي المشحون بالصراعات، تختفي عن عيني بهدوء، هاربةً إلى تلك الزاوية الهادئة، وتنظر إليَّ من بعيد، حتى ضياع ثورتي في مسامات الهدوء. أضع الجريدة جانبًا، وأترك عناويني الصاخبة، وأتسلل نحوها برفق الحالمين لـ "نربي الأمل"، مثل محارب هزمته الابتسامة.
إنها المتمردة على نهاياتي...

الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

لا تتركوا الرسالة فارغة!


الذكرى الثامنة: الصور ذاتها، تعود إلينا ببطء الحائرين. ننظر إلى أفقنا المغبَّر عاجزين عن تشخيص الموت في الحياة. نحاول الهروب من فراغنا القاتل نحو لوم الزمن: "غدرنا الوقت، فهو يمضي بسرعة"، لكنَّ الوقت يمضي بسرعة الوقت، ونحن الواقفين في أماكننا، نسأل في هذه الآونة عن كل ما ليس هامًّا متجاهلين واحدًا عليه أنْ يطرح بقوة الرصاص: أي ثمن سيكون لدخان الموت المتصاعد من أكتوبر 2000، أمام العجز القاتل فينا؟

إنَّه المشهد المحزن دومًا، حين يهّبُ عشرات الآلاف إلى استاد "الدوحة" في سخنين، لمشاهدة مباراةٍ لكرة القدم ولا يجتمع سوى العشرات في مسيرة لاحياء ذكرى أكتوبر في مثلث يوم الأرض. إنه المشهد القاتل ذاته حين يجلس غالبية رؤساء المجالس المحلية العربية (وهم بغالبيتهم نتاج العائلية) على مقاعد "القيادة" في اللجنة القطرية والمتابعة العليا، يحرثون الأرض آلاف المرات لإنجاح أنفسهم في قراهم ولا يرّصون صفًا واحدًا لمسيرة أو نشاطٍ وطني. إنّه العجز التام حين نصفن متأملين في صناديق الاقتراع، قبل أن يندمل الجرح النازف من أكتوبر، ونرى أنَّ إيهود باراك، المسؤول الأول والفعلي عن الأحداث يفوز بغالبية أصوات "عرب حزب العمل" ويعود إلى وزارة الأمن... بـ "فضل العرب". لقد أثارت تلك المعطيات سخرية معاونيه حين قالوا، "على ما يبدو، فكلما كنت قاسيًا مع العرب أحبوك"! فل صدقوا؟
ما دور القيادات إذًا، حين يعجز شعب المليون ومئتي ألف فلسطيني عن إنجاح إضرابٍ ليومٍ واحدٍ، كخطوة احتجاجية سلمية المضمون، لإحياء ذكرى مفصلية في مسيرة شعب، خوفًا من "عدم النجاح"؟ ما قيمة القيادة أصلاً حين لا تفرض قرارها بأسنانها على الشارع؟ وما قيمتها حين تتحوّل مهامها إلى "الخوف من عدم النجاح" و"الإفطار على مائدة رئيس الدولة"؟
سنعجز عن تفسير المشاهد العبثية يا أعزائي، حين يكتب جدعون ليفي مقالاً في "هآرتس" يدين فيه العرب المنتمين للأحزاب الصهيونية ويهاجمهم على دعمهم لشاؤول موفاز، فيرد عليه نائب وزير الخارجية العربي مجلي وهبي (كاديما)، متفاخرًا بالمفاوضات التي تجريها تسيبي ليفني مع "جيراننا" (أصبح الفلسطينيون "جيراننا")، لتكتمل المفارقة. ليفي يكتب كل أسبوع عن ألم الفلسطينيين في زاويته، وبماذا ينشغل وهبي؟ نسينا أنه أعلن على الملأ بمقاطعة "الجزيرة" لأنَّها "منحازة" للفلسطينيين. وهذا انجاز عظيم له!
لا تتركوا الرسالة فارغة للجيل القادم، يكفيه ما يواجه من تحديات. ماذا سنقول لصغارنا المنسيين على الشبكة، المتنقلين بين "البوب" و "باب الحارة": إنَّ وضعنا اليوم أفضل؟ لدينا وزير عربي (إسرائيلي) جميل الطلة، يشارك في إحياء ذكرى الرياضيين الإسرائيليين الذين قتلوا في ميونخ ولا نراه يومًا في ذكرى وطنية؟ هل سنقول لهم إنَّ أوفير بينيس من حزب العمل انسحب من الحكومة احتجاجًا على انضمام أفيغدور ليبرمان إليها فدخل مكانه وزير عربي ليجلس إلى جانب ليبرمان؟!
كل ما في الأمر أنَّ الأفق يحتاج لشمعةٍ تكسر الظلمة بنورها المتواضع. لكنَّ لاقيمة للشمعة في طابور المنتظرين للحمة العيد: بعد ثلاثة أو أربعة أيام (الامر يتعلق بهلال لا نعرفه)، في الذكرى الثامنة لأكتوبر، سيحتفل المسلمون بفطر "سعيد". وسيكون الدخان المتصاعد من المنقل، أقوى بكثير من ذلك الدخان الأسود الذي خلّف من ورائه 13 شهيدًا..


وكيف لنا أن نسّلم؟
الليل يكسو مدينة الأسوار المحتلة: شاب فلسطينين يدهس مجموعة جنود على مقربةٍ من البلدة القديمة. ترتطم السيارة بالجدار، يستل ضابط إسرائيلي سلاحه ويطلق النار على رأس الشاب الفلسطيني حتى يفارق الحياة. يركض الضابط الاسرائيلي: "أنا من أطلق النار عليه". بعد دقائق سيصبح بطلاً قوميًا، وتلقى اتصالاً من قائد هيئة الأركان شخصيًا، وقال له "أحسنت. هكذا على الجنود أن يتعاملوا".
هل كانت عملية الدهس مقصودة؟ أم أنَّها حادث سير في بلاد حوادث السير؟ لا أحد يعرف، الشاب أخذ "السر" معه وغادر. العائلة تشدّد على أنَّ ابنها "لم ينتمِ لتنظيم يذكر، وكان في طريق عودته للبيت". لكن أحدًا لا يسمعهم. المنبر الآن متروك للشرطة وأجهزة الأمن. وباراك يستعجل هدم بيت العائلة.
في عودة إلى التاريخ، وفي صيف العام 2005، اعتلى الجندي ناتان زادة الباص رقم 165 المتجه من حيفا إلى شفاعمرو. عندما وصلت الحافلة وسط المدينة بدأ بإطلاق النار إلى كل حدبٍ وصوب: سقط اربعة شهداء، وعدد من الجرحى. بعض من شبان المدينة أوقفوا المجزرة وقتل زادة.
بعد عامين من المجزرة، اعتقل سبعة شفاعمريين بتهمة الـ "قتل": سجن وشروط مقيدة وكفالات وحبس منزلي. ولوائح الاتهام قيد البحث.
هل وصلت الرسالة؟

في بلاد المفارقات!

بينما يبحث مراقب الدولة مستندات ووثائق حول ارتكاب شاؤول موفاز جرائم حرب ضد الإنسانية في المناطق الفلسطينية المحتلة، يستقبل الأخير مثل "صلاح الدين" في عرعرة. وفي وقتٍ لا يدخل آفي ديختر إلى لندن خشية اعتقاله في أعقاب نفس التهم، تلتقط عدسات الكاميرا "مشايخ عرب" جالسين في الصفوف الأمامية في إطلاق حملته الإنتخابية، مبتسمين لمجرد وجودهم، وتموت الفكرة عند أعتاب المشهد، فنتجاوزها دون موقف.... كدنا أن ننسى الموقف أصلاً.

أصعب ما في المأساة هو الاعتياد عليها، حيث يختفي الفارق بين الواقع والحطام، وتكتسب المواقف عدمًا، ليصبح الخبر عن زيارة "الوزير" لإحدى القرى العربية مشابهًا لخبر عن تحرير أسير: الصور ذاتها، والابتسامات أيضًا، ونعجز في خضم "علم العبثيات" عن رصد المفارقات في الحقائق، حتى صرنا نفتش عن الواقع في وابل من المفارقات.

مشهد من عشرات: رئيسة الوزراء المستقبلية تسيبي ليفني، حلَّت ضيفةً على قرية الجش. غالبية سكان القرية مهجرّون من قراهم. كان استقبالها "حميميًا" إلى حد الدمعة، تنقصه المناسف والسيوف الملونة. جلست ليفني في قلب "رقعة اللجوء" هذه، ووزَّعت الوعود المألوفة على "اللاجئين" هناك. وبعد أيام، دون علاقة لزيارتها، تباهت في الصحف العبرية بأنّها لعبت دورًا مركزيًا قبالة الأمريكيين لتشمل رسالة الضمانات التي أرسلها جورج بوش إلى أرييل شارون في العام 2004، إلغاءً واضحًا لحق عودة للاجئين إلى ديارهم، ليكون "الحل" ضمن "الدولة الفلسطينية المستقبلية" فقط (مستقبل؟!). ليفني، تعرف، ومستقبلوها لا يعرفون، أنَّها تنكر الحق التاريخي لمستقبليها.

وليفسر أحدنا المشهد الشفاعمري: رئيس بلدية شفاعمرو يدين شابين من المدينة لا يزالا مشتبهين بعلاقة مع "الجهاد الإسلامي"، قبل أن تقدم لائحة اتهام ضدهما. الرئيس لا يوفر موقفه، وينشره عبر اثير الإذاعات العبرية. لكن نفس الرئيس يقاطع ذكرى استشهاد أربعة من أبناء مدينته في عملية ارهابية حدثت في قلب مدينته في صيف العام 2005. ونحن نسّلم بالبديهيات، فهو شخص "أزلي المواقف" هكذا كان، وهكذا هو، وهذا صحيح، لكن الرئيس لم تعينه "الداخلية"، انتخبه أهالي المدينة مرتين بنسب عالية، وقد تكون هناك مرة ثالثة. حين تكمن المأساة في المدينة ذاتها، فإنها تكبر إلى حجم المدينة... إنها المأساة فعلاً.

كان الماضي أفضل. كان الداعمين للأحزاب الصهيونية منطوين على جماعاتهم، يعملون مثل تنظيم سري ويسيرون مكترثين لكل حركة. لكنّ الحال تتخذ في الأعوام الأخيرة شكلا علنيًا (فضائحيًا)، فتنشر المواقع الإلكترونية أخبارًا عن نشطاء "كاديما" وكأنها تنشر عن "نشطاء الجبهة" أو "نشطاء التجمع"... نعم إلى هذا الحد.

الصدمة تأتي مرة واحدة، وتفقد رونقها حين تعود ثانية. هكذا نعيش مع الحدث، ونموت مع الحدث. فهل صدمتم من مشهد الوزير الاسرائيلي غالب مجادلة يفتتح "جدارية" محمود درويش؟ ابحثوا عنه ستجدونه أيضًا في غالبية "الأحداث الثقافية" في هذا البلد، جالسًا في الصفوف الامامية ينتظر "الشكر".

من يوم إلى آخر، يتسلل المستحيل إلى الذهون، ويذوب الفارق. سيقول معارضو هذه السطور إنها "حالة طبيعية مشتقة من حالتنا التاريخية"، لكن يحق لنا أن نخشى ذلك اليوم، حين يصبح الوطنيون هم "الظاهرة المشتقة".

أين آمنة اليوم؟!


المشهد مؤلم فعلاً: الغواص ينتزع حقيبة حمراء من قاع نهر "اليركون". الملايين السبعة في هذه البلاد يعرفون أن الطفلة روز، من اخترقت قلبونا دون اذن، تتواجد هناك... جثة هامدة.

لا يختلف إثنان على أن القصة مأساوية، تراجيدية حزينة إلى حد التأمل في فراغ اللحظة. وتكتسب مأساويتها من تضامننا الطبيعي وغير المشروط مع تلك العيون الزرقاء الدامعة، ليعود كل واحد منّا إلى طفل في داخله، فيتألم.

لكنَّ هذه المشاعر المستلقية في راهننا لا تمنح الإعلام العبري حقًا بأن يصنع من القضية "كرنفالاً" لمجرد أن القصة "تبيع". وتنشر الصحف العناوين الصاخبة، فتمتد القضية على كل الصفحات الأولى والاخيرة. التلفزيون ينصب كاميراته عند النهر، ليصبح كل غواص تبلل بالماء نجمًا. ويحل ديختر على مكان التفتيشات، ويلقي المفتش العام للشرطة بيانًا تلو البيان ليغطي على فشل الشرطة الإسرائيلية التي انحدرت في العقد الماضي الى مستويات لا يمكن الخوض بها لكثرتها. كلهم اليوم رهينة القضية، كيف ولا وهم بحاجة إلى هذه المنصات؟ فتنطلق فرق التفتيش نحو العثور على الحقيبة الحمراء، لينتهي المسلسل. القصة تستدعي تغطية إعلامية، لكن ليس "كرنفالاً" ووجود الشرطة قد يكون رائعًا ولكن كيف كانت ستتصرف الشرطة في مكان آخر بعيد عن الكاميرات؟

سنحكي قصة مشابهة بمعطيات وحيثيات مختلفة. في أوائل شهر تموز الماضي، خرجت آمنة عاصلة (15 عامًا) فتاة من قرية عرابة إلى الدكان في الحي الذي تسكنه في ساعات ما بعد الظهر ولم تعد. ثلاثة شهور مرّت تقريبًا على اختفائها دون التوصل إلى طرف خيط. أهل الفتاة يناشدون لكنَّ الصوت لا يزال مخنوقًا... آمنة ببساطة لم تعد.

الإعلام العربي نشر القضية، وأنزلها من العناوين، والمواقع العبرية ذكرتها بتواضع "الحديث عن الآخر". الايام تمر وكأن السماء لفّت آمنة: الناس ينسون، والأهل تأكلهم الشكوك والحسرة، الشرطة بحثت لكن البحث الآن انتقل الى مرحلة "التحليلات": لم يأت وزير الى عرابة، ولم يعقد المفتش العام مؤتمرًا صحافيًا. ففي عرابة لا يوجد "يركون"، توجد عين صغيرة اسمها "عين ناطف"، جفّت مياهها، ولا تصلح لاستيعات مؤتمر صحفي.

ميرا


ميرا، لا تعرف شيئًا عن يومي المثقل بالأوراق. لا تعرف أني حدقت في فراغ الورقة الصفراء مليون لحظة لأخط شيئًا عن شيءٍ، لكني لم أعرف شيئًا من شيءٍ. ترجلت ميرا نحوي برفقٍ، حاملة قصة جديدة، أردات مني أن اكون تلميذها للحظة، أو لساعة أو لبرهة، لتحكي لي عن "الأميرة النائمة"... حتى تنام هي!

ميرا تلفظ من كل خمسة حروف اثنين لا ثالث لهما، لكنها واثقة جدًا مما لا تلفظه. كانت تقلب صفحات قصتها وكأنها تقرأ، لكنها لا تجيد القراءة، وأنا، "خالو"، من يجيد القراءة، قلبَّت ملايين الصفحات في ذلك اليوم ولم أفهم القصة...

كنت أحدق في عينيها هروبًا من عناويني الصاخبة، من الحبر الأسود العالق على يدي منذ الصباح الباكر. كنت أحدق في عينيها هروبًا من احتلال الموج لشاطئي الأزرق؛ من قهوتي الصباحية السمراء وجارتي السمينة الكريهة وذلك المدمن الملقى بجانب الرصيف.

كنت أحدق في عينيها هروبًا من الحسناء الزانية الواقفة مثل مسمار عند محطة الباص انتظارًا لقوادها، من ضابط الأمن عند باب المكتب المغلق، من عامل النظافة القادم من روسيا، تسع سنوات لا يتقن حرفًا بالعبرية، وان أتقنه تلعثم بالثاني؛ من السكرتيرة المتوسطة التي قررت الانفصال عن زوجها إلى الحرية لتتفرغ للمحامي الفاشل الذي يسترق النظرات نحوها من بين ملفاته العتيقة الفارغة. كم كانت ميرا أبعد، أخذتني من هناك إلى هناك، وجردتني من غبار المدينة المتعب بصوتها حين حكت لي: "وسارت الأميرة".

ميرا تنهي قصتها كما تشاء، لم تفكر برئيس تحرير ولا مصحح لغوي. لم تفكر بدار نشر ولم تعدّ الكلمات وحروف الجر ولا أخوات إنَّ ولا التوكيد ولا البدل، لم تضع عناوين ولا نهايات. لقد حكت قصتها كما تشاء، وأنت خذ ما تشاء. قصتها متكاملة، كما تراها هي على الاقل.

ميرا لا تقاوم نعاسها مثلي بكأس قهوة مسموم، لا تريد أن تقاومه اصلاً، تنام حين تشاء، وتستيقظ أيضًا. تترجل نحو نومها بهدوء دمث، وتضع رأسها بجانب ذاكرتي، هي لحظة حتي ينبعث من وجهها نور يضيء حلكة المساء. هذا المساء أنت أسير لحظة في عينيها النائمتين فتنظر إلى ذلك الوجه الغرائبي مبتسمًا، مهذبًا وفرحًا، متخبطًا بمليون شعور، وتتوسل اليها بصمتك المشحون، تتوسل الى ذلك النفس المنبثق بإيقاع ملتزم، ترجوها إلى حد الدمعة، ميرا، يا عزيزتي، يا حبيبتي، يا كل شيءٍ أنت، أرجوك.... لا تكبري.

إنًّه صيف الرثاء!

هل شدّتكم مشاهد الموت في الصيف المغادر؟
إنَّه صيف الرثاء بامتياز: خمسة من أعمدة الثقافة العربية يغادرون هذا الصيف. يتركون من ورائهم حكاية لم تكتمل، لا نعرف عنوانها، لكنّناَ نعي أنَّ رواية الموت في حالتهم متقنة، مكثفة ومضنية، فهم يرمون بسطورهم ومشاهدهم على المحيط العربي المنهك ويرحلون إلى مكان ما، قبل أن تستنفذهم المرحلة. فهل نحن واعون؟

مع إطلالة تموز، غادر المفكر المصري د. عبد الوهاب المسيري دون أن تنصفه الأنظمة. من سيذكر المثقف الذي قضى عشرين عامًا يكتب موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية" ليصدرها على حسابه. كان مثقفًا من نبض الشارع، مناهضًا لحكام "الوراثة"، ومؤسسًا لحركة "كفاية"، مرتقيًا بها نحو الشارع والاعتقال. ورغم مرضه المنهك، لم يقف من وراء الخوذات الواقية، ولم يصمت بحكم "وظيفته" في الجامعات، كان هناك، تحت العصي والهراوات.

بعد اسبوعين من رحيله، غادر المخرج يوسف شاهين قبل أن يكتمل المشهد. صاحب "الحدوتة المصرية" يترك فراغًا بعد سكوت الكاميرا. امتهن شاهين سياسة الفن وفن السياسة، من أرض الصعيد حتى "كان". كان راويًا للتاريخ المناهض للاستعمار، من "الأرض" في مصر حتى "جميلة بوحريد" في الجزائر، وصولاً إلى كسر تابو الظلاميين في "المهاجر" و "المصير". جعل من الفن رحلة عقود لا تنضب، كان سينمائيًا سياسيًا في عهد "مثقفي عدم الانحياز". كان مناهضًا للحركات الإسلامية، لكنه أيضًا عارض الهيمنة الأمريكية، وأحب الناصرية. سواء عشقنا أفلامه أم لم نعشقها، كلنا ندرك، أن في رحيله غاب جزء من الموقف.

وفجعنا في التاسع من آب برحيل شاعرنا محمود درويش. ملايين السطور كتبت عند رحيله. وأي منّا لم يقبض على جمرة الغياب. اي منَّا لم يذوّت موته المبكر. أي منّا لم يمض في المسيرة بحثًا عما تركه الشاعر اللاجئ المنفي الساكن فينا. وأي منّا سيقول أكثر؟

ويمضي صيف الموت، على مهل إلى تلك الرقعة المنسية، إلى الجسد النازف بغداد. في الثالث والعشرين من آب، أعترض مسلحون طريق وكيل وزارة الثقافة كامل شيّاع، واردوه قتيلاً بكواتم الصوت، حتى وقع أرضًا وتناثرت كتبه التي اشتراها للتو من شارع المتنبي. الشخص الذي عاد من المنفى ليكتب ويرتقي بما تبقى من حضارة "غابة الاسود" مات في ميدان العاصمة التي أحب، قبل أن يكتب وقبل أن ينتج وقبل أن ينطق بكلمة تغيير. مات بنيران "شقيقة".

بعد موته، نادت بعض الاقلام بالدفاع عن مثقفي العراق. لكن العراق صار ساحة للاستباحية بعد أن وطأت قدم المستعمر أرضه وبيوته ومتاحفه وأقلامه. إنه عراق الموت.

وبعد خمسة أيام، اختطفها الموت من باريس عن عمر ناهز الـ 55. المخرجة رندا الشهال تستسلم للمرض الخبيث بعد أن انتصرت في حرب "الإشكاليات"، وتمضي قبل أن تقع الكاميرا. الفتاة التي امتهنت رشاقة المشهد ونعومته، سارت إلى حيث المأوى المجهول. إنها صاحبة "طيّارة من ورق" تفلت خيط "طيّارتها" وتغمض عينيها، لتحلق لعبتها في أفق المحيط.

في طريقهم نحو النهاية، يعتقد البشر أنَّهم سائرون نحو القمة، لا يدركون معنى المراحل، لا يلتفتون إلى الروايات السابقة. يهربون نحو المجهول دون تحليل الحقائق اليومية. خمسة مثقفين يغادرون في صيف واحد، حدث يستدعي التأمل والتوقف عند أبسط التفاصيل، لأنَّ الحياة الثقافية المتعبة أصلاً، لن تعود بعدهم كما كانت: يصمت المونولوج ويتوقف القلم وتغادر الفراشات، حين يتعب الحافرون في الصخر. فهل هي استراحة المتفائلين في عهد التشاؤم؟

إنه عهد الرثاء حين لا نتقن المرادفات والمعاني، يموت المبدعون ويولد القليلون في زمن تهاجمه غيوم الفراغ، حتى صار زمن الفراغ بامتياز.

سبع سنوات من العزلة


الحروب لا تدلل موتاها ولا جرحاها. حتى النشرات الأخبارية لا تنصفهم، تقدر أعدادهم بالتقريب من دون الخوض في تفاصيل مآسيهم. وإذا كانت هذه هي الوضعية في كلّ العالم، فأيّ معنىً إذًا ستتخذ المأساة في بلاد المآسي غزة، التي عرفت كل أنواع الموت من المحتل والشقيق، وعرفت كل مفردات الشقاء والعزلة، وتحولت إلى السجن الاكبر في التاريخ ليطلّ على العالم الخارجي بواسطة أنفاق ينشغل العالم بسدّها؟

في خضم المعترك القاهر، ولد أطفال، ليدفعوا ثمن السياسات العدائية. فيتباهى محلل الشؤون العسكرية الإسرائيلية قبل عامين باغتيال أحد النشطاء من "حماس"، من دون أن يذكر أنّ الصاروخ الذي "أصاب الهدف" وقع في قلب عائلة كانت في طريقها إلى الشاطئ ومزّقها. هذه العائلة هي عائلة آمن، إستشهد أربعة من أفرادها، ونجت ماريا بعد صراع مع الموت، لتعيش رهينة كرسي عجلات، مع والدها في مشفى لم تفارقه، ولا تحرّك من جسدها البريء سوى رأسها. وتجد أحيانًا وقتًا للإبتسامة.

ماريا ستحتفل الأسبوع القادم بعيدها السابع، لا تملك القدرة على الرّقص ولا فتح الهدايا، لكنّها ستبتسم حتمًا؛ ابتسامة مطوقة تمامًا كما الطفولة المطوقة في غزة. ستقضي نهارًا مع الاصدقاء وستعود لتنام بين الجدران البيضاء وإلى جانبها حمدي، والدها الثاكل وشقيقها المتبقي من العائلة.

صوت ماريا، كصوت ملايين الأطفال، لن يصل بالتأكيد الى "المحاربين من أجل العدالة". من سيلتفت إلى ابتسامتها الصامتة، ومن التفت أصلا إلى آلاف الأطفال في لبنان وفلسطين؟
"المحاربون من أجل العدالة" منشغلون باحتلال جورجيا الذي دام أسبوعًا، متناسين الانتهاكات اليومية واحتلالاً تجاوز عقودًا.

ما لا يحقّ لنا!


يحقّ لنا أن نرثي شاعرنا، أنْ نقاوم عودته المستحيلة، أن نعود إلى مكتباتنا الهرمة لنقلَّب صفحات الكتب المهترئة بحثًا عن أشعاره القديمة، أن نستعيد لحنها المعهود، مسترقين ما يلائمنا من عبارات. يحق لنا انتزاع ما نشاء من ابتسامة، ما نشتهي من بكاء ورحيل، ولكن علينا الإدراك بأنَّ للشاعر، كما لكل إنسان، خصوصيةً، رغم النجومية والرمزية، تسبقها خطوط حمراء لا يصحّ تجاوزها. للشاعر أصدقاء وعائلة ومُقرّبون، هم المُخوّلون فقط لرصد لحظاته الشخصية. أما نحن، مواطنو العالم الكبير، مُحبّو شعره إلى حدّ الإدمان، علينا التعاطي مع نصِّه ورمزيّته، ولا يحقّ لنا أن نجعل من قهوته الصباحية سيرة ذاتية لنا.

الشعور بالفقدان ليس حكرًا على أحد. وفيض النصوص الرثائية المنتشر على الصفحات المطبوعة والالكترونية قد يعكس حالاً من العزلة والغربة التي تسكننا بعد رحيل العزيز. وهي أصلاً مشتقة من بحثنا الدائم عن الرمز والقائد. إلا أنَّ جزءًا من هذا الفيض تجلَّى بنصوص تجاوزت وصفها الواقع واخترقت المناطق المحظورة في شخص الشاعر، فليس كل من جلس مع درويش مرةً أو اثنتين له الحق في الرثاء الشخصي على شاكلة "ألتقينا في...."، "وتناولنا العشاء في..."، "كنا أنا وهو و..."، أو أن يستعيد مكالمة هاتفية خيالية "ألو محمود وينك؟". وإذا اختار أحد السياسيين أن يحكي عن "العشاء" الذي جمعه بدرويش ذات مرة في "خطاب للأمة"، ضمن تفصيل خارج عن السياق، فويل لأمة تجعل من العشاء مكسبًا سياسيًا! ناهيك عن الأشعار المتناثرة: كلهم "يخاطبون" الشاعر بالقصيدة. مات الشاعر "وولد شعراء".

الكثيرون تمنوا درويش عائدًا إلى البروة، إلى تلك الانقاض ليكون رمزًا يبعث الأمل في حلم ملايين الفلسطينيين بالعودة. ولا بدَّ من أنَّ النقاش حول مكان دفنه شرعي، بل مطلوب، وهناك من أتقن هذا النقاش بلغة سياسية راقية. لكنَّ هناك من انزلق نحو السوقية: رسائل إلكترونية تحت عنوان "أعيدوا لنا شاعرنا" تصل إلى بريدنا مع صورة الشاعر علمًا بأنَّها لا تمثله. على المبادرين أن يعوا أن مصطلحاتهم مرفوضة، وهم متواجدون في حقل محظور: درويش ليس "شاعرنا" وحدنا، كما أنّ الحديث بصيغة "نحن وهم" و"شاعرنا وشاعرهم"، هو تجاوز للأخلاقيات السياسية. ستون عامًا نخوض نقاشًا لنثبت أننا واحد، فلا حاجة لهذه الظواهر أن تكون عبئًا على الخطاب والمسيرة، متجهة، ربما من دون وعي، نحو التفرقة. درويش شاعر الجميع وشعره يولد من رحم الإنسانية ولا حق لأحد بامتلاكه، ورغم ما نتج من وضعيات قد لا ترضينا، فنحن هم، وهم نحن. والاستغناء عن هذه "الحركات الصبيانية" واجب.
إذا كان الراحل قد تجاوز كونه شاعرًا مرتقيًا بشعره وشخصه إلى حد الرمزية، فهذا لا يمنحنا الحق في تجاوز نصوصه نحو العلاقة الشخصية، مانحين أنفسنا الحق بامتلاك لحظاته.

اليوم بعد الغياب، يتوجب إعادة النظر. نحن منذ الآن دونه. لقد أهدانا قصيدته على مدار عقود مضت وكبرنا معه وعلى أشعاره. خاطبنا بكل ما أوتي من إحساس. لقد وجد كل واحد منّا، رغم اختلافنا، حروفًا تلائمه في النصوص. واليوم، الوضع يستدعي صفنة ما بعد الغياب، علينا أن نوفيه الحق الثقافي والفكري المطلوب. أن نترك "البكائيات" ونمضي نحو تخليد اسمه، والتعاطي مع أشعاره الثائرة والرومانسية. أن نجعل اسمه مؤسسة خالدة في قالب راقٍ، أن نحترم نصوصه ونناقشها بالمستوى المطلوب. وعلى مخاتير معارض الكتب أن يتوقفوا عن تزوير كتبه وبيعها بعشرة شواقل. وإذا فعلنا، فهذا أفضل رثاء نقدمه للغائب الحاضر فينا.

"تمرَّد قلبي عليَّ"


هكذا، أغمض "لاعب النرد عينيه " تاركًا "أثر الفراشة". تمنى الكثيرون عودته إلى تلك الرقعة الخضراء المعزولة بين عكا وصفد ليدفن في ثراها تحت ألواح الصبر المتجددة دومًا، إلا أنَّ طقوس الموت لم تمنح الإرادة متسعًا. فلا فرق من أي بابٍ سيعود الكبير إلى التاريخ، أينما سيحل ستكون قضية: ألا يكفي أن يواري درويش الثرى إلى جانب أبو عمار لتكون رام الله في قلب القضية؟ تحت شمس رام الله، تسلل درويش مثل قصيدته نحو نومه المشتهى، مضى وعشرات الآلاف من ورائه ساروا على وقع القصيدة.

الثالث عشر من آب، ثمانية ضباط يحملون نعشه، يخرجون من قاعة "التشريفات" بعد "الطقوس الرئاسية" في مقاطعة رام الله، يضعون النعش على مركبةٍ عسكرية سوداء، لتسير من هناك ببطء، لتفتح الأبواب الحديدية الموصودة في وجوه آلاف المنتظرين خارجًا، ممن آثروا السير من وراء شاعرهم على انتظاره بعيدًا في "القصر الثقافي". يلتحم النعش بالموكب التلقائي، ليهدي درويش نفسه للمدينة التي لم يخترها ربما لتكون محطته الأخيرة.

الموكب الجنائزي يسير بهدوء جنوبًا: الطقس يعزّي السائرين في موت شاعرهم، كان حارًا، لكنَّ لهيبَه لم يشبه لهيب آب المعهود. الحضور آتٍ من كل مكان في فلسطين التاريخية، من قريته البروة المهجرة، ومن الجديدة المتعبة التي هجّر إليها، من مدينته حيفا التي عاش فيها ردحًا ثلاثي الأبعاد بين السجن والإقامة الجبرية والانطلاقة الشعرية. كلهم جاءوا لوداع شاعرٍ لسطوره فضل يذكرونه، أرادوا المشاركة في كل شيء لكن المسيرة "المنظمة" أبقتهم خارج المقاطعة لانتظار "الموكب العسكري": "هل الدبلوماسيون أحق منّا بدرويش؟ يطلبون منّي الهوية؟" قالت فتاة فلسطينية غاضبة، حين كانت تلف على نفسها كوفية فلسطينية، متسائلة "لماذا لم يدخلوننا؟" وقال آخر: "قرّاؤه من المخيمات أحق بالنظرة الأخيرة."

في تلك المسيرة يروي شاب من مخيم "العزة" عن علاقته بالشاعر الراحل: "كنّا ممنوعين في الانتفاضة الثانية من تعليق صورته. كان الجندي يسألني من هذا، أقول له "هذا عمي"، والجنود الجاهلون لم ينتبهوا، إلى حين اكتشف أحد الضباط أنه درويش ومزّق الصورة".

القصص لا تنتهي في تلك المسيرة، لكل واحدة علاقة تجمعه بطريقة ما مع الشاعر الذي جعل من سطوره أغنية لكل من فتّش عنها. وهناك ايضًا من الشبان من اختاروا أن يكون الموكب صاخبًا، ليشعلوا الشق الخلفي من الموكب بهتافات: "عالقدس رايحين، شهداء بالملايين".

على كل شجرة ولافتة ومبنى علقت صورته. الحضور المتنوع كان مجمعًا على شخص الشاعر: نساء وشباب واطفال يحملون صورته. وجدوا في تلك الجنازة استمرارًا ما بعد الفاصلة الأخيرة. ولا يخلو الامر من عشاق ساروا على بحره الشعري، ببطء إلى حيث الوداع. ألم يكتب درويش للعاشقين ايضًا؟

الصعود...إلى التلة
الناس يصعدون إلى تلك التلة، حيث القصر الثقافي، لافتة كبيرة تلتف من حول التلة: "محمود درويش في حضرة الغياب". في الافق كان مارسيل خليفة يغني "سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح". ومن بعدها بدأ صوت درويش يصدح. هكذا تجلى الشاعر مثل قصائده الحديثه، يستقبل مودعيه بصوته المنبثق من مكان ما على التلة. لكن على تلك التلة أيضًا، لم يمنح، تنظيميًا، الشعراء فرصة لفراقه عبر خطاب. كان الدفن "سريعًا تمامًا، كخبر وفاته".

الناس يحاولون القاء النظرة الأخيرة، طفلة صغيرة تلف على كتفيها علمًا، تحمل صورة للشاعر الذي لم تعاصره، تطلب من والدها "بابا أرفعني لأره". كان التراب المنهال على جثمانه مشهدًا قاسيًا للمحبين: هناك من حبس دمعته، وهناك من ذرفها علنًا. وهناك من تأمل المشهد الأخير. خبر الموت يصبح واقعًا. درويش يوارى في الثرى برام الله.

سيرة الشاعر لا تفارق عيون المشيّعين. درويش يمضي إلى مكانٍ لا نعرفه. لم يقل الشاعر ما إذا كان الموت منفىَ أم أنَّ الحياة قبل الموت هي المنفى. لم يعد المنفى سؤالاً أصلاً، لأن الشاعر ترك سطورًا متناثرة في كل العالم لتحكي عن بطاقة الهوية، وجواز السفر وقرائته لطرفة بن العبد وانتظاره لعشيقة لم تأت بعدما وعدت في النصف بعد الرابعة. لقد ترك إيقاع القصيدة لتمتلئ القلوب بكل أسباب الرحيل، وتكتب في سرها حكاية عن رحيل جاء قبل موعده دون أن ينبهنّا كما نبّهنا بـ "انتظرها."

الدفن ينتهي، وصوت درويش لا يزال يجعل من الأفق مساحة للتأمل. الناس يعودون ببطء من حيث أتوا. هكذا، يغادر درويش هذه الرقعة الجريحة بعد المعارك الاخيرة. يغادر، قبل ان تنتهي المعارك الداخلية والخارجية. ينتهي مثل قصائده التي تفتح عند نقطة نهايتها ملايين الاسلئة، ليعيد المتأملين "هي أغنية... هي أغنية": "تمرد قلبي عليّ، أنا العاشق السيء الحظ"