الجمعة، 12 ديسمبر 2008

مكبّر الصمت!


طفلة لم تتجاوز الرابعة بعد، تحكي عن ضياع فرحتها بالنظارة البلاستيكية، وإلى جانبها امرأة تجاوزت عقدها الرابع، تفتش في ساحة بيتها المنهك عن أخشابٍ لتصنع نارًا لقوت عائلتها. مدنٌ تحاول العيش تحت وطأة الظلام، وفي زواياها المنسية، عائلات تفجع بموت أطفالها يوميًا "لأنَّ جهاز التنفس لا يعمل دون كهرباء". قصصٌ تصنع ذاتها، تستمد شرعيتها من الموت في الحياة. أم تفقد ابنها الوحيد بعدما انتظرته عشرة أعوامٍ ليأتي، وتبكي وحدها معزولة مثل مدينتها، فالمكان لا تصله الكاميرات. في غزة لا ينتظرون مخصصات الأطفال ولا "التأمين الوطني"، ولا يطالبون بزيادة الحد الأدنى للأجور، فهم عالقون بين الحياة الموت... غزة لم تمت ربما، لكنَّها بالطبع لا تحيّا.

نجلس قبالة الفضائيات لتمتص غضبنا؛ نتضامن ونغضب ونشتم الأنظمة العربية الصامتة. نتحدى دموعَنا أمامَ قسوة المشاهد، ونهرول لنضيء الشموع على الدوارات الكبيرة، ليفهم مرتادو المقاهي أنَّ "غزة ليست بخير". نختار ملصقًا جميلاً بمأساويته، نبعثه عبر البريد الإلكتروني لقائمة الأصدقاء، فيتحول الملصق وتصميمه، ربما عن دون قصدٍ، إلى صلب القضية أكثر من القضية ذاتها. نتذكر غزة المتعبة في أعيادنا، ونصفن للحظةٍ متذكرينها لننساها مع ضلع الخروف الأول. ومع ماكنة الوقت، تنحدر غزة، من رأس العناوين إلى هامشها، وتزداد المأساة، ليصبح تضامننا المتواضع محدود الضمان، فعندما نعتاد على مشاهد المأساة، تصبح القسوة، في مخيلتنا، أخف وطأة، لكنَّها في الواقع أشدً وأعنف وأشرس.

هذه ليست مزاودة على أحد، لكنَّها حقيقة يعيشها العالم العربي بأسره أمام تلك الرقعة المنسية البعيدة عن كل شيء. حتى صارت مرآة لنا، ومكبّرًا لصمتنا.

الناس متعبون فعلاً، وقد يفهم اللوم مزاودة في ظل التحديات التي نعيشها نحن (وهي لا تقارن أصلا مع معاناة غزة)، ولكن في خضم الحال العاتية، المستشرسة بألمها، ما رأيكم يا قادتنا العرب، يا من تحتسبون على "الوطنيين"، بألا تعانقوا إيهود أولمرت بهذه الحميمية في الناصرة، والأ تستقبلوا شمعون بيرس بهذا التلهف في مدينة يوم الأرض سخنين. فهؤلاء هم مبتكرو سياسة الحصار، ونرجوكم، أرحمونا قليلاً من شعارات المتواطئين، وقول "نحن مجبرون"، فهل أنتم مجبرون على عناقهما حتى البكاء؟! أحيانا، القليل من الخجل يفرّح قلب الإنسان.

غزة اليوم تعيش حال يأس، تتنفس عبر أنفاق لا ضوء فيها؛ كل شيء في عداد "الممنوعات"، من الطعام حتى الوقود والسجائر، والحديث عن حاجيات أخرى ليس مطروحًا في هذا العقد: طلاب الجامعات في غزة لا يحاربون من أجل "خفض قسط التعليم"، ولا يتقنون "سماجة" طلاب الجامعات الاسرائيلية وهم مستلقون على الطرقات في قمة "المسرحية". الطلاب في غزة يحاربون من أجل مغادرة الرقعة المحاصرة إلى مكان يدرسون فيه، حين لا تنفع وساطات العالم لإخراجهم.

وفي خّضم هذه الحال، يطل علينا بضعة من "السياسيين المهمشين"، من "سياسيي الداخل"، سطع نجمهم من أكثر الزوايا الهامشية تاريخيًا، ليشكلوا "حزبًا جديدًا"، يضعون على سلم أولوياتهم الاهتمام بـ "قضايا عرب الداخل فقط". طرحهم يثلج الصدر ويدغدغه، فهؤلاء، هم "عرب إسرائيل" بامتياز. وماذا تعني غزة والضفة لهم؟ لا نعرف، على الأقل الاحتلال ليس على "أجندتهم" (إذا صح التعبير)، فهم "دنيماركيو الطلة".

يا أيها الأعزاء الجدد، حين يقبع شعب كامل تحت الحصار والاحتلال والموت المجازي والحرفي، فممكن تأجيل رؤيتكم المعطوبة قليلاً. هذا الفصل المبطن بين "فلسطينيي الداخل" وغيرهم من الفلسطينيين، ما هو إلا ترجمة لوعي سياسي بائس. نرجوكم، كما قال اسكندر المقدوني، "إبعدوا عن شمسنا" قليلاً، فبوجودكم يا أيها "الأعزاء"، لم يتبق الكثير من النور.

غزة تكتب تاريخًا على جناح الحصار. مدينة ساحلية، تمنع السفن من الوصول إليها. شعبها معزول عن شعبها، وخلافات بين أقطاب السلطة يدفع الشعب ثمنها؛ لا مستشفيات ولا محطات وقود ولا مخابز والافق مهدد دائمًا بالظلام، وبحر "ممنوع الدخول". علينا أن نعرف بأن الشعارات لا تكسر حصارًا والبكاء لا يعيد عزيزًا، ولكن قبل أن نعانق بيرس وأولمرت، وقبل أن نفرح لقدوم ليفني، وقبل أن نلبس حلة "عرب إسرائيل" علينا أن نذكر، أنّ في ذلك المكان بشرًا يريدون الحياة، وأطفالا لا يحلمون بالموت، بقدر ما يحلمون بنظارة بلاستيكية يحفظونها من هدير القذيفة.

جنين و "الموت المؤقت": مدينة غريبة عن ماضيها


من يعبر الحاجز، يدرك فوراً أنَّه عالم قائم بحد ذاته، لا يعرف معناه سوى المارين منّه ويعرفه أكثر هؤلاء الممنوعون من عبوره. لقد تغيّر حاجز الجلمة المؤدي الى مدينة جنين. يتخذ اليوم شكل النقطة الحدودية. هذا ليس "معبراً" كما يطلق عليه البعض، هو بوابة موصودة في وجوه عشرات الآلاف القابعين من ورائه تحت وطأة المعاناة.

وفي جنين، تلك المدينة التي عرفت في الماضي أمجاداً، تكتسب الحواجز اليوم معنى أشدَّ قسوة: محافظة كبرى، مغلقة من جهاتها الثلاثة، ومفتوحة فقط من جهتها الجنوبية الرابعة التي تؤدي إلى باقي الضفة الغربية المحتلة، حيث المزيد من الاحتلال.

ثمانية أعوام تعاني هذه المدينة من الموت المؤقت. منع فلسطينو 48 منذ الانتفاضة الثانية من دخولها، وسمح لهم في الآونة الأخيرة، لكنَّ بشروط الاحتلال التي تجعل من زيارة "المشتريات والترفيه" مهمة شاقة. فهم ممنوعون من الدخول بسياراتهم، ويمرّون عبر الحاجز وكاميرات وعشرات التحذيرات المدوّنة باللون الاصفر، متاهات واسلاك شائكة، عالم من الكاميرات. ببساطة، لم يعد الحاجز مجرد برج للمراقبة وتدقيق هوية. الحاجز اليوم أكبر، لدرجة انه يستوعب شركات حراسة اسرائيلية خاصة لفحص المارين. صار الحاجز صناعة في إسرائيل.

يكفي السفر على الشارع الممتد من الجلمة إلى مدينة جنين لإدراك الحاضر المتعب، وكم باتت هذه المدينة غريبة عن ماضيها. لا وجودَ لحوانيت الفخّار المعهودة، ولا معارض السجاد، ولا مشاتل النباتات. لا شيء ينبت مجدداً في المدينة، حتى الكراجات مغلقة تماماً. الطريق لا تشهد الصخب المعهود، ضباط أمنٍ فلسطينيون يقفون عند مفارق الطرق، يفرضون نظاماً على الطرقات الفارغة.
ظهيرة الخميس، الشارع الاكثر اكتظاظاً في جنين لا يبدو بأحسن أحواله. عجوز تجاوز السبعين من عمره يجلس خارج بقالته متأملاً الحضور الشحيح في السوق. لا حياة في الدكان، تراه مزاولاً للصمت منتظراً شيئاً غير مفهوم. بائع الكعك لا يزال شاباً، يجول بعربته بسرعة، يلاحق "الرزقة" اينما حلّت. يصرخ بأعلى صوته، لكنَّ الصوت لا يحرك المارة.

هكذا يبدو السوق في يوم خميس، الذي يعد "قمة التسوّق"، كما يقول تاجر. ويضيف "أنت ترى بعينك. لا أحد يشتري غير حاجته يا عزيزي، لقد ولّت تلك الأيام".

يبدو خالد، صاحب محل الأحذية حيوياً. عندما تسأله عن الحال يقول "نرضى اليوم بربع ما رضينا به في الماضي، لكنَّ حتى الربع لا يأتي".

أحوال السوق هي من أحوال المدينة. "هل حال الموظفين وحدهم قادرة على إحياء المدينة وهم بالكاد ينالون راتبهم بعد شهور من عدم تلقيهم". لم يكن نقاشاً، كان صوت شكوى وحسرة. وقف التجار ليحكي كل واحد عن ضائقته. يحكون مرة واحدة، كلهم يتفقون على أنَّ الحال سيئة، وما تتناقله وسائل الاعلام عن "مشاريع في قلب جنين ما هو إلا هراء. اليوم طوني بلير يزور جنين، والمئات من رجال الاعمال جاؤوا إلى هنا. لماذا لا ينزلون السوق؟" يقول أحد التجار.

على مقربة من النقاش، وقف شاب نحيف يبتسم عنوةً. أراد الخوض في غمار الحديث لكنَّ عنفوان النقاش والشكوى المتعالية من بعض التجار لم تمنحه متسعاً للتعبير. عندما انتهى النقاش، اقترب الشاب وقال بصوتٍ منخفض "أنا أدرس في جامعة القدس المفتوحة. لا أجد قسط التعليم. وصدقني أريد العمل إلى جانب تعليمي لكني ايضاً لا أجد عملاً... هذا ما أردت قوله فقط"، قال كلماته بهدوء ومضى، لم يطلب شيئاً، كلما ما أراده هو البوح بألمٍ لا أحد يشعر به سواه.

قوات الأمن الفلسطينية لا تزال متمترسة على مقربة النصب التذكاري للشهيد ابو علي مصطفى في مركز جنين. عشرات الشبان يجلسون على الرصيف ومن ورائهم ابواب موصودة لأماكن كانت تجارية ذات يوم، يجعلون من عصر الخميس مساحةً للتأمل بالسيارات.
عند الحديث معهم تتبدل ملامحهم، يشعل أحدهم سيجارة ويقول: "أشتري سيجارة واحدة، لا ثمن لعلبة كاملة". حين تسأله كيف يعيش يجيب: "مثل الكثيرين، أعيش على أمل".

جنين اشبه بالغيتو الكبير، وأهلها ينتظرون أملاً يأتيهم من السماء. تراهم يزاولون حياتهم العادية، ربما لا يرضون بالواقع، لكنَّهم يقبلونه عنوة من أجل الاستمرار. كانت أسواق المدينة ذات يوم تعج بالبشر، ومطاعمها لا تخلو من الزائرين. لكنّها اليوم مدينة شاقة وثقيلة. تماماً كما باقي المدن تحت الاحتلال. تجرّب كل أنواع النهوض لتنهض، لكنَّها سرعان ما تدرك بأنها عالقة بين احتلال وحاجز.


حكايات شهادة في مخيم الصمود
في ساحة مخيم جنين يقف خمسة شبّان، إلى جانبهم عجوز تجاوز الثمانين يجلس عند مدخل بقالة مظلمة، يتأمل طلاباً عائدين لتوّهم من المدرسة. بائع الخضار يبدو منتعشاً قليلاً، والشارع يشهد حركة ما بعد موت الصباح. الابتسامة تجد متسعاً بين الشباب وبعض السائقين، لكنَّها لا تزال غير قادرة على تبديد تعب المكان: أبواب حديدية موصودة تحمل صور شهداء في كل مكان لتوثّق الشهادة. ويقول أحد السكان "لقد مرّت ايام على هذا المخيم لا تجد فيه شباناً. إما شهداء أو أسرى أو مطلوبين".

أهل المخيم لا يزالون يعيشون الانتفاضة. لم يتحرروا بعد من اجتياح العالم 2002، الذي سماه الاحتلال "السور الواقي". لقد هدم الاحتلال أكثر من ثلاثة أرباع المخيم، الذي بني مجدداً بتمويل عربي، من دون أن يخفي فقر المكان.

لقد دفع أهل المخيم خلال عدوان "السور الواقي" نحو 85 شهيداً. قصصهم لا تفارق الجدران. يظل الزائر رهينة الصور والجداريات التي تحمل اسماء الشهداء، رهينة الروايات عن القوات الخاصة والمستعربين التي كانت تجتاح المخيم كل ليل ونهار. عن ذلك المقاوم الذي تركه "الاحتلال المتنور" على مقربة من الحاجز ينزف حتى الشهادة، وعن ذلك العجوز الذي استفاق ليلاً للوضوء واستشهد برصاص القناصة. قصص كثيرة ومخيم واحد يحيا مرحلة ما بعد الصدمة.

"لقد تحولت الحياة من بعد الاجتياح إلى جهنم. أغلقوا علينا كل الطرق"، يقول أحد الشبان العاملين على سيارة الأجرة. ويتابع "السلطة تمنعنا من مزاولة عملنا على سيارة الأجرة. لكنّها لا توفر لنا شيئاً في المقابل. لا يرحموننا ولا يتركون رحمة الله تنزل. وإسرائيل لا تمنحنا تصاريح للدخول لأن شبان المخيم مرفوضون أمنياً. حتى إننا لا نستطيع الهجرة إذا أردنا".

التاريخ القريب، والمستقبل المجهول، لا يمنعان الحياة من الاستمرار. الأمور تسير. الشبان الخمسة لا يبادرون للحديث عن قصصهم الشخصية إلا حين تسألهم واحداً واحداً، فتكتشف أنهم يجرون من ورائهم قصصاً من الحصار والموت، "شقيقي الأول استشهد في الانتفاضة الأولى، وشقيقي الثاني في الثانية ووالدي خلال الاجتياح"، يقول أحدهم. تنظر اليه مستغرباً من تلك القدرة على تذليل المصاب أمام الحياة.

الأطفال والناس والمعاناة. الصور والأبواب الموصودة. الشهداء والمسرح والناس. كلها صور تشكل مخيم جنين الذي يحاول بشتى الوسائل أن يجمع بين الحياة ونقيضها، ليمضي نحو الانتصار على الطبيعة.

من سجن إلى سجن
السلطة الفلسطينية هي المؤسسة الأكبر في محافظة جنين، "لا خبز لحماس هنا"، يقول أحد السكان. رجال الأمن الفلسطينيون ينتشرون في كل مكان ضمن الخطة الأمنية الفلسطينية القاضية بإدخال أربعة آلاف عنصر إلى محافظة جنين. لا توجد فئات مسلحة غير السلطة في جنين، "الجميع ملتزم" يقول أحد المسؤولين.

كان عناصر الأمن يقفون وسط الشارع المؤدي للسوق. حين تسألهم عن الأحوال يقولون انهم "ممنوعون من الرد وتوجد دائرة عامة هي المخولة الوحيدة للحديث". القوات الأمنية الفلسطينية تعمل بشكل ميداني، وتحاول فرض القانون على الكثير من المجالات الحياتية. اداؤها لا يحظى ربما بالإجماع المطلق، إذ يقول شاب: "يعني هم يريدون ان نخضع نحن للقانون وان ننفذ التزامتنا في وقت أن إسرائيل تواصل الاستيطان والقتل والاعتقالات".

لعل أكثر ما يقوله الناس في جنين هو أن السلطة تحاول ان تفرض القانون "لكن سيادتها تنتهي عند دخول المدرعة العسكرية الاسرائيلية الأولى"، فالجيش الإسرائيلي «يأتي إلى هنا، ويعتقل، ويخرج متى يشاء وفي الوقت الذي يراه مناسباً. هل تستطيع القوات الأمنية وقفه عند حده؟ الأجابة لا".
الجميع في جنين يدرك بأنَّ الحياة في هذا المكان صعبة للغاية. "القضية ليست أمناً"، يقول أحد من عمّال بلدية جنين، "الناس هنا بحاحة للكثير قبل أن يكونوا بحاجة للأمن".

ومع هذا يبدو الجو هادئاً في جنين، ويمكن ملامسة النظام أيضاً. لكنَّ الخطة الأمنية تبقى في جنين. وقوات الأمن الفلسطينية التي تحاول فرض القانون لا تلعب دوراً في تخفيف العبء الأزلي للمواطنين أو أن تضع حدا ًلمعاناتهم عند الحواجز والمعيقات.

الحاجز مرة أخرى، تلك التجربة التي يمرَّ بها الأهالي يومياً ويحاولون نسيانها يومياً. في الخروج من المدينة التفتيش أصعب، والتدقيق أصعب. على الطرف الآخر من جدار الحاجز يقف العشرات من أهالي جنين بانتظار العودة الى بلدتهم. الجندي الاسرائيلي قال لهم إنَّ "هناك مشكلة" وعليهم الانتظار. الطقس بارد للغاية.

تغادر الحاجز، وتراه من بعيد مضاءً بالألوان الصفراء وكأنه قاعة للترفيه. لكنَّه مصنع للقصص المأساوية. وتتذكر عنوةً تلك المرأة التي تجاوزت السبعين العائدة من زيارة لابنها الأسير في السجون الاسرائيلية والعالقة على الحاجز حين قالت "نموت حتى ننال تصريح الدخول والزيارة، ونموت حتى نعود الى البيت". وتواصل حديثها، دون ان يسمعها أحد، عن يوم الزيارة "من سجن إلى سجن".

http://www.al-akhbar.com/ar/node/106707 : فراس خطيب