الأحد، 2 نوفمبر 2008

عذرًا لأننا لم نمت!


مدينة الأسوار كتبت عنوانًا آخر أهدته للتاريخ على جنح العاصفة. يخيَّم الظلام على صورة البيوت المحروقة، على الشوارع البائسة. تحاول حلم نابليون أنْ تحيا مجددًا، أن تستعيد رونقها المفقود، ليعودَ المشردون الباكون إلى ديارهم، وأن تنتهي تفاصيل الحدث. لكن علينا التوقف قليلاً قبل أن يسدّل الستار على مشهد المدينة، علينا أن نعي بأنَّ الجرح لم يندمل بعد، وأسئلة تبحث عن إجاباتٍ مفقودة. إنَّها التساؤلات ذاتها، والمفارقات ذاتها، فكيف لنا، نحن العالقين بين العواصف، أن نفسَّر موقفًا، حين أصدرت فيه القيادة المحلية في عكا بيان اعتذار فضائحيًا لـ "يهود المدينة" (وقادتهم) في وقت كانت العائلات العربية المشردة تقف عاجزة عند الظهيرة في ساحة البلدية تنتظر من يرافقها لجلب حاجاتها من بيوتها المحروقة. كان المشهد فظيعًا إلى حد البكاء، وبينما كان النازحون العكيّون يبكون مرارة البعد عن البيت عنوةً، كان الاعتذار يضرب أدراج الرياح داخل قاعة البلدية. على ماذا اعتذرتم يا بعض "قادتنا المحلية" الأعزاء، يا متقني اللغة العبرية بكل ما تحمله من تملق؟

بيان الإعتذار صدر بالعبرية سرًا، لم يترجم للعربية. وقَّع عليه عدد من "وجهاء المدينة"، عضو البلدية أحمد عودة غضب ولم يوقّع على البيان، وجزءٌ كبير من أهالي المدينة استهجنوا الحدث. البيان المذكور تمَّ دون استشارة القيادات القطرية (فهي أيضًا كانت غائبة ومنشغلة بانتخابات السلطات المحلية)، ونشر الأعتذار في وسائل الاعلام العبرية (لا العربية) دون مرجعية،َ مضمونه غضَّ الطرف عن المسألة الحقيقية البائسة التي يعيشها أهل المدينة العرب من تهويد وتهميش وبطالة وفقر وعنصرية. القادة الموقعون على الاعتذار يدّعون بأنّ البيان جاء لإعادة "التعايش" إلى المدينة، لكنَّهم سعوا بهذا إلى المستحيل، فلم يكن تعايش لإعادته أصلاً، وقد تحول البيان من سعي للتهدئة، إلى سعي لا مباشر لتحويل المدينة التاريخية، ذات الحضارة المقدسة ثقافيًا، الى بلد الأسماك وعصير القصب. لكن عكا أكبر بكثير من أن نحصرها في صحن من الحمص!

وما بالكم حين لايقبل رئيس البلدية شمعون لانكري الاعتذار؟ فيغضب العرب على موقفه؟
أيها الموقعون، لماذا على لانكري، واضح النوايا لتهويد المدينة، أن يقبل اعتذارًا منكم، في حين أنَّ اعتذاركم يصف "المجموعة القليلة" (من شبّان عكا) بأنهم قاموا "بذنب لا يغتفر"، معتبرًا حرق البيوت العربية "ردًا" على أفعال العرب؟ فأنتم في بيانكم لم تغفروا لشبّانكم، فماذا تتوقعون من لانكري وغيره؟ أن يغفروا لشبانكم؟ لقد اختار لانكري، للأسف، بعد الاعتذارات، أنْ يقف في قلب عكا ويقول: "عكا لنا ستبقى لنا إلى أبدِ الآبدين"، فهو مقتنع تمام الاقتناع، قبلكم بأن التعايش بدعة يكتبها الحاضر للتغطية على المصائب الحقيقية. فعلى ماذا اعتذرتم يا قادتنا الأعزاء؟

المواطن العكي، توفيق الجمل، تحول بين ساعة وضحاها إلى نجم الحقيقة المرّة التي تعيشها مدينة الأسوار المحاصرة. لم يعرف المواطن البسيط، قبل الحدث، الطريق إلى "الكنيست الكبير"، لم يعرف بالتأكيد، أنه يستطيع الحضور إلى قلب لجنة الداخلية. أن يتحمل، دون أن يدري، مسؤولية المواجهات التي أشعلت المدينة. كان واضحًا، حتى لو لم يعترف أحد، أن هناك من دفعه نحو "الاعتذار"، ليتربعوا هم في العناوين، ولتعتقله الشرطة على ذمة التحقيق.

نحن لسنا ضد الاعتذار. قد تكون المشاعر حرّكت بعض الشبّان العرب نحو ارتكاب الخطأ حين حطَّموا زجاح المحال التجارية في شارع بن عامي. أحداث مثل هذه دائمًا مؤسفة. فالعنف لم يكن ذات يوم حلاً ناجعًا، لكنَّ دراسة الحدث وتطوراته وأبعاده في مثل هذه الحالة واجب، فقد كان غضبهم ردًا على رهن المدينة بأيدي ثلة من اليمينيين يتربصون الشارع شرًا. فالقضية الأساسية هي أن بيوتًا عربية حوصرت لمجرد كونها عربية خرج أهلها من هناك تحت هدير التهديد والحجارة والهتافات العنصرية. مشهد الأطفال والنساء النازحين يعيد المشهد إلى أيام ماضية لا تزال تلقي بظلالها على الواقع الأسود. العائلات النازحة عن بيوتها جلست في الفنادق دون أن تملك الحد الأدنى من الحاجيات. والوحدات الخاصة لم تسعف الواقع، ربما أرادته أشدّ سوادًا كي تتحرك. هذه هي القضية الأساسية، وهل علينا الاعتذار لأننا كدنا أن نموت ولم نمت؟

وقيادتنا القطرية؟!
لقد حضرت بعض القيادات العربية القطرية إلى مكان الحدث وسجّلت موقفًا ليس كافيًا. حضرت الاحزاب، لكن ليس بقوة. حضور ينقصه الالتفاف. لا كوادر ولا نشاطات. كيف لا وهم منشغلون في ترتيب القوائم المحلية، في مأسسة العائلية، وفي التناحر الأزلي على الأصوات؟. كان التعاطي مع عكا وكأنَّها "مسألة محلية"، لكنَّها قطرية بامتياز. أين لجنة المتابعة التي كان غيابها حاضرًا في كل مكان؟ وهل أحداث عكا لم ترتق إلى مستوى تحدياتها؟ وهل ثمة ما هو أهم من الصراع على الوجود؟
لم تعمل قيادتنا على رفع عكا إلى قلب العنوان. كان على قضية التهويد المتسلل إلى بيوتها أن تطرح بقوة، كان على الوضع الاجتماعي والسياسي في البلدة القديمة أن يطرح بقوة. كان على القيادة أن تستغل المأساة لإزالة المأساة، أن ترتقي بعكا نحو سلم الألويات بأساليب حضارية، بالعقل لا بالمشاعر. لكنَّ الأسف يتسلل دائمًا إلى المشهد، عكا اليوم تطوي صفحتها نحو عنوان آخر أو نحو عاصفة أخرى!

بقعة ضوء

مجموعات وجمعيات مدنية قامت بإحياء صمت المدينة. تنظيم جولات في السوق: مسرح وفنون وبازرات أعاد للشارع العكي رونقه بعد المواجهة، وأظهر أن عكا تحيا بأهلها ولا حاجة لمهرجان للمسرح الآخر ليحييها. كانت خطوات مباركة فعلاً، ايجابية في الواقع السلبي. لكنَّ على الجميع أن يعرف، من المواطن إلى القيادي، أن نشاطات كهذه، قد تنعش المدينة من صمتها، لكنّها لن تحييها من موتها المؤقت، ولن تنهي زحف الجمعيات الاستيطانية إلى حجارة أسوارها المتعبة.

ليست هناك تعليقات: