الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

في بلاد المفارقات!

بينما يبحث مراقب الدولة مستندات ووثائق حول ارتكاب شاؤول موفاز جرائم حرب ضد الإنسانية في المناطق الفلسطينية المحتلة، يستقبل الأخير مثل "صلاح الدين" في عرعرة. وفي وقتٍ لا يدخل آفي ديختر إلى لندن خشية اعتقاله في أعقاب نفس التهم، تلتقط عدسات الكاميرا "مشايخ عرب" جالسين في الصفوف الأمامية في إطلاق حملته الإنتخابية، مبتسمين لمجرد وجودهم، وتموت الفكرة عند أعتاب المشهد، فنتجاوزها دون موقف.... كدنا أن ننسى الموقف أصلاً.

أصعب ما في المأساة هو الاعتياد عليها، حيث يختفي الفارق بين الواقع والحطام، وتكتسب المواقف عدمًا، ليصبح الخبر عن زيارة "الوزير" لإحدى القرى العربية مشابهًا لخبر عن تحرير أسير: الصور ذاتها، والابتسامات أيضًا، ونعجز في خضم "علم العبثيات" عن رصد المفارقات في الحقائق، حتى صرنا نفتش عن الواقع في وابل من المفارقات.

مشهد من عشرات: رئيسة الوزراء المستقبلية تسيبي ليفني، حلَّت ضيفةً على قرية الجش. غالبية سكان القرية مهجرّون من قراهم. كان استقبالها "حميميًا" إلى حد الدمعة، تنقصه المناسف والسيوف الملونة. جلست ليفني في قلب "رقعة اللجوء" هذه، ووزَّعت الوعود المألوفة على "اللاجئين" هناك. وبعد أيام، دون علاقة لزيارتها، تباهت في الصحف العبرية بأنّها لعبت دورًا مركزيًا قبالة الأمريكيين لتشمل رسالة الضمانات التي أرسلها جورج بوش إلى أرييل شارون في العام 2004، إلغاءً واضحًا لحق عودة للاجئين إلى ديارهم، ليكون "الحل" ضمن "الدولة الفلسطينية المستقبلية" فقط (مستقبل؟!). ليفني، تعرف، ومستقبلوها لا يعرفون، أنَّها تنكر الحق التاريخي لمستقبليها.

وليفسر أحدنا المشهد الشفاعمري: رئيس بلدية شفاعمرو يدين شابين من المدينة لا يزالا مشتبهين بعلاقة مع "الجهاد الإسلامي"، قبل أن تقدم لائحة اتهام ضدهما. الرئيس لا يوفر موقفه، وينشره عبر اثير الإذاعات العبرية. لكن نفس الرئيس يقاطع ذكرى استشهاد أربعة من أبناء مدينته في عملية ارهابية حدثت في قلب مدينته في صيف العام 2005. ونحن نسّلم بالبديهيات، فهو شخص "أزلي المواقف" هكذا كان، وهكذا هو، وهذا صحيح، لكن الرئيس لم تعينه "الداخلية"، انتخبه أهالي المدينة مرتين بنسب عالية، وقد تكون هناك مرة ثالثة. حين تكمن المأساة في المدينة ذاتها، فإنها تكبر إلى حجم المدينة... إنها المأساة فعلاً.

كان الماضي أفضل. كان الداعمين للأحزاب الصهيونية منطوين على جماعاتهم، يعملون مثل تنظيم سري ويسيرون مكترثين لكل حركة. لكنّ الحال تتخذ في الأعوام الأخيرة شكلا علنيًا (فضائحيًا)، فتنشر المواقع الإلكترونية أخبارًا عن نشطاء "كاديما" وكأنها تنشر عن "نشطاء الجبهة" أو "نشطاء التجمع"... نعم إلى هذا الحد.

الصدمة تأتي مرة واحدة، وتفقد رونقها حين تعود ثانية. هكذا نعيش مع الحدث، ونموت مع الحدث. فهل صدمتم من مشهد الوزير الاسرائيلي غالب مجادلة يفتتح "جدارية" محمود درويش؟ ابحثوا عنه ستجدونه أيضًا في غالبية "الأحداث الثقافية" في هذا البلد، جالسًا في الصفوف الامامية ينتظر "الشكر".

من يوم إلى آخر، يتسلل المستحيل إلى الذهون، ويذوب الفارق. سيقول معارضو هذه السطور إنها "حالة طبيعية مشتقة من حالتنا التاريخية"، لكن يحق لنا أن نخشى ذلك اليوم، حين يصبح الوطنيون هم "الظاهرة المشتقة".

ليست هناك تعليقات: