الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

ما لا يحقّ لنا!


يحقّ لنا أن نرثي شاعرنا، أنْ نقاوم عودته المستحيلة، أن نعود إلى مكتباتنا الهرمة لنقلَّب صفحات الكتب المهترئة بحثًا عن أشعاره القديمة، أن نستعيد لحنها المعهود، مسترقين ما يلائمنا من عبارات. يحق لنا انتزاع ما نشاء من ابتسامة، ما نشتهي من بكاء ورحيل، ولكن علينا الإدراك بأنَّ للشاعر، كما لكل إنسان، خصوصيةً، رغم النجومية والرمزية، تسبقها خطوط حمراء لا يصحّ تجاوزها. للشاعر أصدقاء وعائلة ومُقرّبون، هم المُخوّلون فقط لرصد لحظاته الشخصية. أما نحن، مواطنو العالم الكبير، مُحبّو شعره إلى حدّ الإدمان، علينا التعاطي مع نصِّه ورمزيّته، ولا يحقّ لنا أن نجعل من قهوته الصباحية سيرة ذاتية لنا.

الشعور بالفقدان ليس حكرًا على أحد. وفيض النصوص الرثائية المنتشر على الصفحات المطبوعة والالكترونية قد يعكس حالاً من العزلة والغربة التي تسكننا بعد رحيل العزيز. وهي أصلاً مشتقة من بحثنا الدائم عن الرمز والقائد. إلا أنَّ جزءًا من هذا الفيض تجلَّى بنصوص تجاوزت وصفها الواقع واخترقت المناطق المحظورة في شخص الشاعر، فليس كل من جلس مع درويش مرةً أو اثنتين له الحق في الرثاء الشخصي على شاكلة "ألتقينا في...."، "وتناولنا العشاء في..."، "كنا أنا وهو و..."، أو أن يستعيد مكالمة هاتفية خيالية "ألو محمود وينك؟". وإذا اختار أحد السياسيين أن يحكي عن "العشاء" الذي جمعه بدرويش ذات مرة في "خطاب للأمة"، ضمن تفصيل خارج عن السياق، فويل لأمة تجعل من العشاء مكسبًا سياسيًا! ناهيك عن الأشعار المتناثرة: كلهم "يخاطبون" الشاعر بالقصيدة. مات الشاعر "وولد شعراء".

الكثيرون تمنوا درويش عائدًا إلى البروة، إلى تلك الانقاض ليكون رمزًا يبعث الأمل في حلم ملايين الفلسطينيين بالعودة. ولا بدَّ من أنَّ النقاش حول مكان دفنه شرعي، بل مطلوب، وهناك من أتقن هذا النقاش بلغة سياسية راقية. لكنَّ هناك من انزلق نحو السوقية: رسائل إلكترونية تحت عنوان "أعيدوا لنا شاعرنا" تصل إلى بريدنا مع صورة الشاعر علمًا بأنَّها لا تمثله. على المبادرين أن يعوا أن مصطلحاتهم مرفوضة، وهم متواجدون في حقل محظور: درويش ليس "شاعرنا" وحدنا، كما أنّ الحديث بصيغة "نحن وهم" و"شاعرنا وشاعرهم"، هو تجاوز للأخلاقيات السياسية. ستون عامًا نخوض نقاشًا لنثبت أننا واحد، فلا حاجة لهذه الظواهر أن تكون عبئًا على الخطاب والمسيرة، متجهة، ربما من دون وعي، نحو التفرقة. درويش شاعر الجميع وشعره يولد من رحم الإنسانية ولا حق لأحد بامتلاكه، ورغم ما نتج من وضعيات قد لا ترضينا، فنحن هم، وهم نحن. والاستغناء عن هذه "الحركات الصبيانية" واجب.
إذا كان الراحل قد تجاوز كونه شاعرًا مرتقيًا بشعره وشخصه إلى حد الرمزية، فهذا لا يمنحنا الحق في تجاوز نصوصه نحو العلاقة الشخصية، مانحين أنفسنا الحق بامتلاك لحظاته.

اليوم بعد الغياب، يتوجب إعادة النظر. نحن منذ الآن دونه. لقد أهدانا قصيدته على مدار عقود مضت وكبرنا معه وعلى أشعاره. خاطبنا بكل ما أوتي من إحساس. لقد وجد كل واحد منّا، رغم اختلافنا، حروفًا تلائمه في النصوص. واليوم، الوضع يستدعي صفنة ما بعد الغياب، علينا أن نوفيه الحق الثقافي والفكري المطلوب. أن نترك "البكائيات" ونمضي نحو تخليد اسمه، والتعاطي مع أشعاره الثائرة والرومانسية. أن نجعل اسمه مؤسسة خالدة في قالب راقٍ، أن نحترم نصوصه ونناقشها بالمستوى المطلوب. وعلى مخاتير معارض الكتب أن يتوقفوا عن تزوير كتبه وبيعها بعشرة شواقل. وإذا فعلنا، فهذا أفضل رثاء نقدمه للغائب الحاضر فينا.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

احسنت يا فراس، ما دمت مستمر بالعطاء بهذا المستوى "نحن بخير"