الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

إنًّه صيف الرثاء!

هل شدّتكم مشاهد الموت في الصيف المغادر؟
إنَّه صيف الرثاء بامتياز: خمسة من أعمدة الثقافة العربية يغادرون هذا الصيف. يتركون من ورائهم حكاية لم تكتمل، لا نعرف عنوانها، لكنّناَ نعي أنَّ رواية الموت في حالتهم متقنة، مكثفة ومضنية، فهم يرمون بسطورهم ومشاهدهم على المحيط العربي المنهك ويرحلون إلى مكان ما، قبل أن تستنفذهم المرحلة. فهل نحن واعون؟

مع إطلالة تموز، غادر المفكر المصري د. عبد الوهاب المسيري دون أن تنصفه الأنظمة. من سيذكر المثقف الذي قضى عشرين عامًا يكتب موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية" ليصدرها على حسابه. كان مثقفًا من نبض الشارع، مناهضًا لحكام "الوراثة"، ومؤسسًا لحركة "كفاية"، مرتقيًا بها نحو الشارع والاعتقال. ورغم مرضه المنهك، لم يقف من وراء الخوذات الواقية، ولم يصمت بحكم "وظيفته" في الجامعات، كان هناك، تحت العصي والهراوات.

بعد اسبوعين من رحيله، غادر المخرج يوسف شاهين قبل أن يكتمل المشهد. صاحب "الحدوتة المصرية" يترك فراغًا بعد سكوت الكاميرا. امتهن شاهين سياسة الفن وفن السياسة، من أرض الصعيد حتى "كان". كان راويًا للتاريخ المناهض للاستعمار، من "الأرض" في مصر حتى "جميلة بوحريد" في الجزائر، وصولاً إلى كسر تابو الظلاميين في "المهاجر" و "المصير". جعل من الفن رحلة عقود لا تنضب، كان سينمائيًا سياسيًا في عهد "مثقفي عدم الانحياز". كان مناهضًا للحركات الإسلامية، لكنه أيضًا عارض الهيمنة الأمريكية، وأحب الناصرية. سواء عشقنا أفلامه أم لم نعشقها، كلنا ندرك، أن في رحيله غاب جزء من الموقف.

وفجعنا في التاسع من آب برحيل شاعرنا محمود درويش. ملايين السطور كتبت عند رحيله. وأي منّا لم يقبض على جمرة الغياب. اي منَّا لم يذوّت موته المبكر. أي منّا لم يمض في المسيرة بحثًا عما تركه الشاعر اللاجئ المنفي الساكن فينا. وأي منّا سيقول أكثر؟

ويمضي صيف الموت، على مهل إلى تلك الرقعة المنسية، إلى الجسد النازف بغداد. في الثالث والعشرين من آب، أعترض مسلحون طريق وكيل وزارة الثقافة كامل شيّاع، واردوه قتيلاً بكواتم الصوت، حتى وقع أرضًا وتناثرت كتبه التي اشتراها للتو من شارع المتنبي. الشخص الذي عاد من المنفى ليكتب ويرتقي بما تبقى من حضارة "غابة الاسود" مات في ميدان العاصمة التي أحب، قبل أن يكتب وقبل أن ينتج وقبل أن ينطق بكلمة تغيير. مات بنيران "شقيقة".

بعد موته، نادت بعض الاقلام بالدفاع عن مثقفي العراق. لكن العراق صار ساحة للاستباحية بعد أن وطأت قدم المستعمر أرضه وبيوته ومتاحفه وأقلامه. إنه عراق الموت.

وبعد خمسة أيام، اختطفها الموت من باريس عن عمر ناهز الـ 55. المخرجة رندا الشهال تستسلم للمرض الخبيث بعد أن انتصرت في حرب "الإشكاليات"، وتمضي قبل أن تقع الكاميرا. الفتاة التي امتهنت رشاقة المشهد ونعومته، سارت إلى حيث المأوى المجهول. إنها صاحبة "طيّارة من ورق" تفلت خيط "طيّارتها" وتغمض عينيها، لتحلق لعبتها في أفق المحيط.

في طريقهم نحو النهاية، يعتقد البشر أنَّهم سائرون نحو القمة، لا يدركون معنى المراحل، لا يلتفتون إلى الروايات السابقة. يهربون نحو المجهول دون تحليل الحقائق اليومية. خمسة مثقفين يغادرون في صيف واحد، حدث يستدعي التأمل والتوقف عند أبسط التفاصيل، لأنَّ الحياة الثقافية المتعبة أصلاً، لن تعود بعدهم كما كانت: يصمت المونولوج ويتوقف القلم وتغادر الفراشات، حين يتعب الحافرون في الصخر. فهل هي استراحة المتفائلين في عهد التشاؤم؟

إنه عهد الرثاء حين لا نتقن المرادفات والمعاني، يموت المبدعون ويولد القليلون في زمن تهاجمه غيوم الفراغ، حتى صار زمن الفراغ بامتياز.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

مرحبا يا فراس
يا وعر!!!!!
حنا شماس